كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **


قال بعضهم‏:‏ خلق اللّه الجنة والنار وجعلهما دارين إحداهما جهة اليمين والأخرى جهة الشمال هذه كلها خير صرف وهذه كلها شر صرف وأنزل الدين للأمر والنهي على معنى الدارين ثم خلق دار الدنيا بين الدارين فالجنة من القبر إلى أعلى عليين والنار من القبر إلى أسفل سافلين روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فليس بعد الدنيا إلا الجنة والنار فالناس بعد الموت منهم معذب ومنهم منعم في جنة أو نار فالناس وقوف في الدنيا بين الجنة والنار حقيقة وهم لا يشعرون‏.‏

- ‏(‏م‏)‏ في الإيمان بالقدر وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم ‏(‏عن عائشة‏)‏ قالت توفي صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولا تدرين وفي رواية أو غير ذلك فذكره فنهى عن الحكم على معين بدخول الجنة فلعله قبل علمه بأن أطفال المؤمنين في الجنة‏.‏ قال في الزواجر‏:‏ وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث أن أطفال المؤمنين لا يقطع لهم بدخول الجنة واشتد إنكار العلماء عليه في هذه المقالة الشنيعة المخالفة للقواطع والحديث ظاهره غير مراد إجماعاً وإنما هو قبل أن يعلم بأنهم مقطوع لهم بالجنة وإنما الخلاف في أطفال الكفار والأصح أنهم في الجنة أيضاً وظاهر صنيع المصنف أن مسلماً لم يروه إلا كما ذكر والأمر بخلافه بل زاد بعد قوله ولهذه أهلاً ما نصه‏:‏ وهم في أصلاب آبائهم‏.‏

1742 - ‏(‏إن اللّه تعالى‏)‏ لكمال رأفته ‏(‏ورضي لهذه الأمة اليسر‏)‏ فيما شرعه لها من أحكام الدين ولم يشدد عليها كما شدد على الأمم الماضية ‏(‏وكره لها العسر‏)‏ أي لم يرده بها ولم يجعله عزيمة عليها ‏{‏يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ قال الحراني‏:‏ واليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم ومن رفق اللّه بهذه الأمة ومعاملتها باليسر والعطف أن شرع لها ما يوافق كتابها وصرف عنها ما تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه وهكذا حال الأمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لتجنبها وبه يكون حفظ المأمور من المخالفة وإذا شاء أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله وهو من الآصار المجعولة على الأولين مخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعها على وفق جبلتها فجعل لهم حظاً من هواهم كما قال المصطفى صلى اللّه عليه وسلم اللّهم أدر الحق معه حيث دار ولهذا كان يأمر الشجاع بالحرب ويكف الجبان حتى لا يظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق وذلك قصد العلماء الربانيين في تأديب ‏[‏ص 237‏]‏ كل مريد على اللائق بحاله وجبلته‏.‏

- ‏(‏طب عن محجن‏)‏ بكسر أوله وسكون المهملة وفتح الجيم ‏(‏ابن الأدرع‏)‏ بفتح الهمزة ودال مهملة ساكنة الأسلمي نزل البصرة واختط مسجدها قال الهيثمي‏:‏ رجاله رجال الصحيح‏.‏

1743 - ‏(‏إن اللّه رفيق‏)‏ أي لطيف بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر فيكلفهم فوق طاقتهم بل يسامحهم ويلطف بهم ولا يجوز إطلاق الرفيق عليه سبحانه اسماً لأن أسماءه سبحانه إنما تتلقى بالنقل المتواتر ولم يوجد، ذكره بعض الشراح، وأصله قول القاضي الرفق ضد العنف وهو اللطف وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها والظاهر أنه لا يجوز إطلاقه عليه تعالى لأنه لم يتواتر ولم يستعمل هنا على قصد التسمية وإنما أخبر به عنه تمهيداً للحكم الذي بعده انتهى لكن قال النووي‏:‏ الأصح جواز تسميته تعالى رفيقاً وغيره مما يثبت بخبر الواحد ‏(‏يحب الرفق‏)‏ بالكسر لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل أي يحب أن يرفق بعضكم ببعض وزعم أن المراد يحب أن يرفق بعباده لا يلائم سياق قوله ‏(‏ويعطي عليه‏)‏ في الدنيا من الثناء الجميل ونيل المطالب وتسهيل المقاصد وفي العقبى من الثواب الجزيل ‏(‏مالا يعطي على العنف‏)‏ بالضم الشدة والمشقة وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله‏.‏ نبه به على وطاءة الأخلاق وحسن المعاملة وكمال المجاملة ووصف اللّه سبحانه وتعالى بالرفق إرشاداً وحثاً لنا على تحري الرفق في كل أمر فهو خارج مخرج الأخبار لا التسمية كما تقرر‏.‏

- ‏(‏خد د عن عبد اللّه بن مغفل‏)‏ بضم الميم وفتح المعجمة وشدة الفاء ابن عبد نهم بفتح النون وكسر الهاء ‏(‏ه حب عن أبي هريرة حم هب عن علي‏)‏ أمير المؤمنين رضي اللّه تعالى عنه قال الهيثمي‏:‏ وفيه أبو خليفة ولم يضعفه أحد وبقية رجاله ثقات ‏(‏طب عن أبي أمامة‏)‏ قال الهيثمي‏:‏ وفيه صدقة بن عبد اللّه السمين وثقه أبو حاتم وصدقه الجمهور وبقية رجاله ثقات ‏(‏البزار‏)‏ في مسنده ‏(‏عن أنس‏)‏ بإسنادين قال الهيثمي‏:‏ رجال أحدهما ثفات وفي بعضهم خلاف وقضية صنيع المؤلف أن هذا لم يخرجه الشيخان ولا أحدهما وإلا لما عدل عنه وهو ذهول فقد خرجه مسلم من حديث هائشة رضي اللّه تعالى عنها ولفظه إن اللّه رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه‏.‏ قال القاضي‏:‏ وإنما ذكر قوله وما لا يعطي على سواه بعد قوله ما لا يعطي على العنف إيذاناً بأن الرفق أبحج الأسباب وأنفعها بأسرها‏.‏

1744 - ‏(‏إن اللّه زوجني في الجنة‏)‏ مضافاً إلى زوجاتي اللاتي تزوجتهن في الدنيا ‏(‏مريم بنت عمران‏)‏ أي جعلها زوجتي فيها وأوقع الماضي موقع المستقبل لتحقق الوقوع ‏(‏وامرأة فرعون‏)‏ آسية بنت مزاحم ‏(‏وأخت موسى‏)‏ الكليم عليه السلام واسمها مريم كما قاله البيضاوي وغيره قال الحرالي‏:‏ خلصهن اللّه من الاصطفاء الأول العبراني إلى اصطفاء عربي علي حتى أنكحهن من محمد النبي العربي صلى اللّه عليه وسلم وهؤلاء الثلاثة مترتبات في الفضل على هذا الترتيب فأفضلهن مريم اتفاقاً فآسية لأنه قيل بنبوتها فأخت موسى لأنه لم يذهب إلى القول بنبوتها أحد‏.‏ والظاهر أن وقوع التزوج في الجنة‏.‏

- ‏(‏طب عن سعد بن جنادة‏)‏ بضم الجيم وخفة النون ودال مهملة والد عطية العوفي وفد من الطائف وأسلم قال الهيثمي‏:‏ فيه من لم أعرفه‏.‏

1745 - ‏(‏إن اللّه تعالى سائل‏)‏ إشارة إلى تحقق وقوع ذلك ‏(‏كل راع عما استرعاه‏)‏ أي أدخله تحت رعايته ‏[‏ص 238‏]‏ ‏(‏أحفظ ذلك أم ضيعه‏)‏ بهمزة الاستفهام ‏(‏حتى يسأل الرجل عن أهل بيته‏)‏ أحفظهم أم ضيعهم فيعامل من قام بحق ما استرعاه عليه بفضله ويعامل من أهمله بعدله وما يعفو اللّه أكثر-أي ويرضى خصماء من شاء بجوده وكما يسأله عن أهل بيته يسأل أهل بيته عنه فظاهر الحديث أن الحكام أولى بالسؤال عن أحوال الرعايا من سؤال الرجل عن أهل بيته- قال الطيبي‏:‏ فيه أن الراعي ليس مطلوباً لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه فعليه أن لا يتصرف إلا بمأذون الشارع فيه وهو تمثيل ليس ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه وزاد في رواية فأعدوا للمسألة جواباً قالوا‏:‏ وما جوابها قال‏:‏ أعمال البر خرجه ابن عدي والطبراني قال ابن حجر‏:‏ بسند حسن واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من في حكمه وفيه بيان كذب الحديث الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية ففي آداب القضاء للكرابيسي عن الشافعي رضي اللّه عنه بسنده دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث إن اللّه إذا استرعى عبداً للخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات فقال له كذب ثم تلا ‏{‏يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض‏}‏ إلى ‏{‏بما نسوا يوم الحساب‏}‏ فقال الوليد‏:‏ إن الناس ليغروننا‏.‏

- ‏(‏ن حب عن أنس‏)‏ ورواه عنه أيضاً البيهقي في الشعب وفيه معاذ بن هشام حديثه في الستة لكن أورده الذهبي في الضعفاء وقال قال ابن معين صدوقاً وليس بحجة وقال غيره له غرائب وتفردات‏.‏

1746 - ‏(‏إن اللّه سمى‏)‏ وفي رواية إن اللّه أمرني أن أسمي ولا تعارض لأن المراد أنه أمره بإظهار تسميتها ‏(‏المدينة طابة‏)‏ بمنع صرفها وفي بعض روايات البخاري طابة بالتنوين بجعلها نكرة وهي تأنيث طاب من الطيب وأصلها طيبة قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وكان اسمها يثرب فكرهه النبي صلى اللّه عليه وسلم لاستعمال الثرب في معنى القبح فبين أن اللّه سماها طابة لتيطيب مكانها بالدين أو لخلوصها من الشرك وتطيبها منه أو لطيب رائحتها وأمورها كلها أو لحلول الطيب بها وهو المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أو لكونها تنفي خبثها ويبقى طيبها أو لغير ذلك-أو لطيب ترابها وهوائها ومساكنها وطيب العيش بها قال بعض العلماء من أقام بالمدينة يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها- وتسميتها في التنزيل يثرب وقوله في حديث هذه يثرب باعتبار ما عند المنافقين أو نزول الآية سابق على التسمية‏.‏

- ‏(‏حم م ن عن جابر بن سمرة‏)‏ ولم يخرجه البخاري‏.‏

1747 - ‏(‏إن اللّه تعالى صانع‏)‏ بالتنوين وعدمه ‏(‏كل صانع وصنعته‏)‏ أي مع صنعته فهو خالق للفاعل والفعل لقوله تعالى ‏{‏واللّه خلقكم وما تعملون‏}‏ وبهذا أخذ أهل السنة وهو نص صريح في الرد على المعتزلة وكمال الصنعة لا يضاف إليها وإنما يضاف إلى صانعها وهذا الحديث قد احتج به لما اشتهر بين المتكلمين والفقهاء من إطلاق الصانع عليه تعالى قال المؤلف فاعتراضه بأنه لم يرد وأسماؤه تعالى توقيفية غفلة عن هذا الخبر وهذا حديث صحيح لم يستحضره من اعترض ولا من أجاب بأنه مأخوذ من قوله ‏{‏صنع اللّه‏}‏ انتهى ومنعه بعض المحققين بأنه لا دليل لما صرحوا به من اشتراط إذ لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو ‏{‏أم نحن الزارعون‏}‏ ‏{‏واللّه خير الماكرين‏}‏ وهذا الحديث من ذلك القبيل وبأن الكلام في الصانع بأل بغير إضافة وما في الخبر مضاف وهو لا يدل على جواز غيره بدليل قول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر لم يأخذوا منه أن الصاحب بغير قيد من أسمائه تقدس، نعم صح من حديث الحاكم والطبراني، اتقوا اللّه فإن اللّه فاتح لكم مصانع، وهذا دليل واضح للمتكلمين والفقهاء لا غبار عليه ولم ‏[‏ص 239‏]‏ يستحضره المؤلف ولو استحضره لكان أولى له مما يحتج به في عدة مواضع قال الذهبي‏:‏ واحتج به من قال الإيمان صفة للرحمن غير مخلوق كذا رأيته بخطه ‏(‏تتمة‏)‏ قال الراغب‏:‏ سئل بقراط عن دلالة الصانع فقال دل الجسم على صانعه فجمع بهذه اللفظة دلالة حدوث العالم لأن الجسم يدل على أنه مصنوع ولا بد له من صانع ولم يصنع نفسه وصانعه حكيم‏.‏

- ‏(‏خ في خلق أفعال‏)‏ أي في كتاب خلق أفعال ‏(‏العباد‏)‏ وهو كتاب مفرد مستقل ‏(‏ك‏)‏ في الإيمان وصححه ‏(‏والبيهقي في‏)‏ كتاب الأسماء ‏(‏والصفات‏)‏ كلهم ‏(‏عن حذيفة‏)‏ مرفوعاً لكن لفظ الحاكم إن اللّه خالق بدل صانع ثم قال على شرط مسلم وأقره الذهبي وتقييد المصنف العزو للبيهقي بكتاب الأسماء يؤذن بأنه لم يخرجه في كتابيه اللذان وضع لهما المصنف الرمز وهما الشعب والسنن وليس كذلك فقد خرجه في الشعب باللفظ المزبور عن حذيفة المذكور‏.‏

1748 - ‏(‏إن اللّه تعالى طيب‏)‏ بالتلقيل أي منزه عن النقائص مقدس عن الآفات والعيوب وكل وصف خلا عن كمال أو طيب الثناء أو مستلذ الأسماء عند العارفين بها وكيف ما كان فهو من أسمائه الحسنى لصحة الخبرية كالجميل قال الراغب‏:‏ وأصل الطيب ما تستلذه النفس والحواس والطيب من الناس من تزكى عن نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأفعال ‏(‏يحب الطيب‏)‏ أي الحلال الذي يعلم أصله وجريانه على الوجه الشرعي العاري عن ضروب الحيل وشوائب الشبه فلا تقبل ولا ينبغي أن يتقربوا إليه إلا بما يناسبه في هذا المعنى وهو من خيار أموالكم ‏(‏كريم يحب الكرم‏)‏ أي في حياته لا البخل في حياته الكريم عند موته بدليل الخبر المار وقوله ‏(‏جواد‏)‏ بالتخفيف ‏(‏يحب الجود‏)‏ عطف خاص على عام ‏(‏نظيف‏)‏ أي منزه عن سمات الحدوث متعال في ذاته عن كل نقص ‏(‏يحب النظافة‏)‏ أي نظافة الباطن بخلوص العقيدة ونفي الشرك ومجانبة الهوى والأمراض القلبية من نحو غل وحقد وحسد وغيرهما ومجانبة كل مطعم وكل مشرب وكل ملبس من حرام وشبهة، ونظافة الظاهر بترك الأدناس وملابسة العبادات ومفهومه أنه يبغض ضد ذلك وبه صرح في الخبر الآتي بقوله إن اللّه يبغض الوسخ الشعث ولا ينافيه خبر إن اللّه يحب المؤمن المبتذل الذي لا يبالي ما لبس إذ لا يلزم من كون الثوب خشناً أو بالياً أن يكون وسخاً، فالمنهي عنه إنما هو التزين والتصنع والتغالي في اللباس ‏(‏فنظفوا‏)‏ ندباً ‏(‏أفنيتكم‏)‏ جمع فناء وهو الفضاء أمام الدار قال الطيبي‏:‏ الفاء فيه جواب شرط محذوف أي إذا تقرر ذلك فطيبوا كل ما أمكن تطييبه ونظفوا كل ما سهل لكم تنظيفه حتى أفنية الدار وهي ما أمام الدار وهو كناية عن نهاية الكرم والجود فإن ساحة الدار إذا كانت واسعة نظيفة كانت أدعى لجلب الضيفان وتناوب الواردين والصادرين‏.‏

وإليه ينظر قول الحماسي‏:‏

فإن يمس مهجور الفناء فربما * أقام به بعد الوفود وفود

وفي رواية بدله عذراتكم وهو بمعناه قال الزمخشري‏:‏ العذرة الفناء وبه سميت العذرة لإلقائها فبها كما سميت بالغائط وهو المطمئن ‏(‏ولا تشبهوا‏)‏ بحذف إحدى التاءين للتخفيف وأصله تتشبهوا ‏(‏باليهود‏)‏ في قذاراتهم وقذارة أفنيتهم، ومن ثم كان للمصطفى صلى اللّه عليه وسلم وصحبه مزيد حرص على النظافة وقد اختار الحق سبحانه من كل جنس أطيبه فاختصه لنفسه والطيب من كل شيء هو مختاره دون غيره وأما خلقه فعام للنوعين وبه يعرف عنوان سعادة العبد وشقاوته فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يسكن إلا إليه ولا يطمئن إلا به وبين الطيب والخبيث كمال الانقطاع ومنع الاجتماع‏.‏

- ‏(‏ت عن سعد‏)‏ وحسنه ورواه من طريق أخرى عن أبي ذر وفيها شهر بن حوشب وهو ضعيف والأولى سالمة منه ‏(‏إن اللّه تعالى عفو‏)‏ أي متجاوز عن السيئات ‏(‏يحب العفو‏)‏ لما سبق أنه سبحانه يحب أسماءه وصفاته ويحب من اتصف بشيء منها ويبغض من اتصف بأضدادها ولهذا يبغض قاسي القلب والبخيل والجبان والمهين واللئيم‏.‏ قال ‏[‏ص 240‏]‏ العارف ابن أدهم رضي اللّه عنه خلا لي الطواف ليلة مطيرة فقلت بالملتزم يا رب اعصمني فقيل لي كل عبادي يطلبون العصمة فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر‏؟‏ قال الراغب رحمه اللّه‏:‏ العفو والصفح صورتا الحلم، ومخرجاه إلى الوجود، فالعفو ترك المؤاخذة بالذنب، والصفح ترك التثريب، واشتقاقه من تجاوز الصفحة التي أثبت فيها ذنوبه والإعراض بصفحة الوجه عن التلفت إلى ما كان فيه وهو محمود إذا كان على الوجه الذي يحب والعفو إنما يستحب إذا كانت الإساءة مخصوصة بالعافي كمن أخذ ماله أو شتم عرضه فإن عادت بالضرر على الشرع أو الناس فله ترك العفو‏.‏

- ‏(‏ك عن ابن مسعود‏)‏ عبد اللّه ‏(‏عد عن عبد اللّه بن جعفر‏)‏‏.‏

1750 - ‏(‏إن اللّه تعالى عند‏)‏ وفي رواية ذكرها المطرزي‏:‏ وراء ‏(‏لسان كل قائل‏)‏ أي يعلمه قال في المغرب هذا تمثيل والمعنى أنه تعالى يعلم ما يقوله الإنسان ويتفوه به فمن يكون عند الشيء مهيمناً لديه محافظاً عليه ‏(‏فليتق اللّه عبد‏)‏ نكرة للوقوع أو إشارة إلى قلة المتقين ‏(‏ولينظر‏)‏ أي يتأمل ويتدبر ‏(‏ماذا يقول‏)‏ أي ما يريد للنطق به هل هو عليه أو له ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ فجميع ما ينطق به مكتوب عليه مسؤول عنه‏.‏ قال الليث‏:‏ مررنا براهب فنودي طويلاً فلم يجب ثم أشرف فقال يا هؤلاء لساني سبع فأخاف أن أرسله فيأكلني‏.‏ وقال بعض العارفين‏:‏ إياك والمراء في شيء من الدين وهو الجدال فإنك لا تخلو أن تكون فيه محقاً أو مبطلاً كما يفعل الفقهاء اليوم في مجالس مناظراتهم يلتزم أحدهم في ذلك مذهباً لا يعتقده وقولاً لا يرتضيه وهو يحاول به الحق الذي يعتقده أنه حق ثم تخدعه النفس بأن تقول له إنما تفعل ذلك لتنفتح الخواطر لا لإقامة الباطل وما علم أنه تعالى عند لسان كل قائل وأن العامي إذا سمع مقالته بالباطل وظهوره على صاحب الحق وهو عنده أنه فقيه عمل على ذلك الباطل فلا يزال الإثم عليه ما دام ذلك السامع يعمل بما سمع منه‏.‏

- ‏(‏حل‏)‏ من حديث محمد بن إسماعيل العسكري عن صهيب بن محمد بن عباد عن مهدي عن وهب بن أبي الورد عن محمد بن زهير ‏(‏عن ابن عمر‏)‏ بن الخطاب ومحمد بن زهير قال الذهبي قال الأزدي ساقط ‏(‏الحكيم‏)‏ الترمذي ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ ورواه عنه أيضاً البيهقي في الشعب والخطيب في التاريخ باللفظ المزبور‏.‏

1751 - ‏(‏إن اللّه تعالى غيور‏)‏ فعول من الغيرة الحمية والأنفة وهي محال على اللّه تعالى لأنها هيجان الغضب يسبب ارتكاب ما ينهى عنه فالمراد لازمها وهو المنع والزجر عن المعصية ‏(‏يحب الغيور‏)‏ في محل الربية كما يفيده قوله في الحديث الآتي غيرتان غيرة يحبها اللّه ‏(‏وإن عمر‏)‏ بن الخطاب رضي اللّه عنه ‏(‏غيور‏)‏ فهو لذلك يحبه لأن من لمح لمحاً من وصف كان من الموصوف به باللطف لطف ووصف كل مرتبة بحسبها ‏(‏رستة‏)‏ بضم الراء وسكون المهملة وفتح المثناة لقب عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني الحافظ‏.‏

- ‏(‏في الإيمان‏)‏ أي في كتاب الإيمان له ‏(‏عن عبد الرحمن بن رافع‏)‏ التنوخي قاضي أفريقية ‏(‏مرسلاً‏)‏ قال في الكاشف منكر الحديث مات سنة 113‏.‏

1752- ‏(‏إن اللّه تعالى قال من عادى‏)‏ من المعاداة ضد الموالاة ‏(‏لي‏)‏ متعلق بقوله ‏(‏ولياً‏)‏ -المراد بالولي العارف باللّه المواظب على طاعته المخلص في عبادته- وهو من تولي اللّه بالطاعة فتولاه اللّه بالحفظ والنصر، فالولي هنا القريب من اللّه باتباع أمره وتجنب نهيه وإكثار النفل مع كونه لا يفتر ‏[‏ص 241‏]‏ عن ذكره ولا يرى بقلبه سواه ‏(‏فقد آذنته بالحرب‏)‏ أي أعلمته بأني سأحاربه ‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله‏}‏ ومن حاربه اللّه أي عامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر القهر والجلال وهذا في الغاية القصوى من النهديد والمراد عادى ولياً لأجل ولايته لا مطلقاً فخرج نحو محاكمته لخلاص حق أو كشف غامض، فلا يرد خصومة العمرين رضي اللّه عنهما لعليّ والعباس رضي اللّه عنهما ومعاداته لولايته إما بإنكارها عناداً أو حسداً أو بسبه أو شتمه ونحو ذلك من ضروب الإيذاء، وإذا علم ما في معاداته من الوعيد علم ما في موالاته من الثواب ‏(‏وما تقرب إلي عبدي بشيء‏)‏ أي بفعل طاعة ‏(‏أحب إلي مما افترضه عليه-دخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية والفرائض الظاهرة فعلاً كالصلاة والزكاة وغيرها من العبادات وتركاً كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات والباطنة كالعلم باللّه والحب له والتوكل عليه والخوف منه- أي من آدابه عيناً أو كفاية لأنها الأصل الذي ترجع إليه جميع الفروع والأمر بها جازم يتضمن أمرين الثواب على فعلها والعقاب على تركها فالفرض كالأس والنفل كالبناء عليه ‏(‏ولا يزال عبدي‏)‏ الإضافة للتشريف ‏(‏يتقرب‏)‏ وفي رواية يتحبب ‏(‏إلي بالنوافل‏)‏ أي التطوع من جميع صنوف العبادة ‏(‏حتى أحبه‏)‏ بضم أوله وفتح ثالثه ‏(‏فإذا أحببته‏)‏ لتقربه إليّ بما ذكر حتى قلبه بنور معرفتي ‏(‏كنت‏)‏ أي صرت ‏(‏سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده الذي يبطش بها ورجله التي يمشي بها‏)‏ يعني يجعل اللّه سلطان حبه غالباً حتى لا يرى ولا يسمع ولا يفعل إلا ما يحبه اللّه عوناً له على حماية هذه الجوارح عما لا يرضاه أو هو كناية عن نصرة اللّه وتأييده وإعانته له في كل أموره وحماية سمعه وبصره وسائر جوارحه عما لا يرضاه وحقيقة القول ارتهان كلية العبد بمراضي الرب على سبيل الاتساع فإنهم إذا أرادوا اختصاص شيء بنوع اهتمام وعناية واستغراق فيه ووله به ونزوع إليه سلكوا هذا الطريق، قال‏:‏

جنوني فيك لا يخفى * وناري فيك لا تخبو * وأنت السمع والناظر * والمهجة والقلب

ولمشائخ الصوفية رضي اللّه تعالى عنهم في هذا الباب فتوحات غيبية وإشارات ذوقية، تهتز منها العظام البالية لكنها لا تصلح إلا لمن سلك سبيلهم فعلم مشربهم بخلاف غيرهم فلا يؤمن عليه من الغلط فيهوي في مهواة الحلول والاتحاد، والحاصل أن من تقرب إليه بالفرض ثم النفل قرّبه فرقاه من درجة الإيمان مقام الإحسان حتى يصير ما في قلبه من المعرفة يشاهده بعين بصيرته وامتلاء القلب بمعرفته يمحي كل ما سواه فلا ينطق إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نظر فيه أو سمع فيه أو بطش فيه وهذا هو كمال التوحيد ‏(‏وإن سألني لأعطينه‏)‏ مسؤوله كما وقع لكثير من السلف ‏(‏وإن استعاذ بي‏)‏ روي بنون وروي بموحدة تحيتية والأول الأشهر ‏(‏لأعيذنه‏)‏ مما يخاف وهذا حال المحب مع محبوبه وفي وعده المحقق المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب بما مر لا يرد دعاؤه ‏(‏وما تردّدت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن‏)‏ أي ما أخرت وما توفقت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن أتوقف عليه حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقاً إلى انخراطه في سلك المقربين والتبوىء في أعلا عليين، أو أراد بلفظ التردد إزالة كراهة الموت عن المؤمن بما يبتلي به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئاً فشيئاً بالأسباب المذكورة يشبه فعل المتردد فعبر به عنه ‏(‏يكره الموت‏)‏ لصعوبته وشدته ومرارته وشدة ائتلاف روحه لجسده وتعلقها به ولعدم معرفته بما هو صائر إليه بعده ‏(‏وأنا أكره مساءته‏)‏ وأريده له لأنه يورده موارد الرحمة والغفران والتلذذ ‏[‏ص 242‏]‏ بنعيم الجنان فالمراد ما رددت شيئاً بعد شيء مما أريد أن أفعله بعبدي كترددي في إزالة كراهة الموت عنه بأن يورد عليه حوادث يسأم معها الحياة ويتمنى الموت كما تمنى علي كرم اللّه وجهه الموت لاختلاف رعيته عليه وقتالهم له مع كونه الإمام الحق وقد يحدث اللّه بقلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه ما يشتاق به إلى الموت فضلاً عن كراهته فيأتيه وهو له مؤثر وإليه مشتاق وذلك من مكنون ألطافه فسبحان اللطيف الخبير، وهذا أصل في السلوك كبير‏.‏

- ‏(‏خ‏)‏ في الرقائق ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ قال في الميزان غريب جداً ولولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه من منكرات خالد بن مخلد لغرابة لفظه وانفراد شريك به وليس بالحافظ ولم يرد هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا خرجه غير البخاري‏.‏

1753 - ‏(‏إن اللّه تعالى قال لقد خلقت خلقاً‏)‏ من الإنس ‏(‏ألسنتهم أحلى من العسل‏)‏ فيها يملقون ويداهنون ‏(‏وقلوبهم أمر من الصبر‏)‏ فيها يمكرون وينافقون، وإطلاق الحلاوة والمرارة على ما ذكر مجاز، قال الزمخشري‏:‏ من المجاز حلا فلان في صدري وفي عيني وهو حلو اللقاء وحلو الكلام وأمر ومر وما أمر فلان وما أحلا ‏(‏فبي حلفت‏)‏ أي بعظمتي وجلالي لا بغير ذلك كما أفاده تقديم المعمول ‏(‏لأتيحهم‏)‏ بمثناة فوقية فمثناة تحتية فحاء مهملة فنون أي لأقدرن لإتاحة وأنزلها بهم، والإتاحة التقدير فالمراد لأقدرن عليهم ‏(‏فتنة‏)‏ أي بلاء ومحنة عظيمة كما يفيده التنكير ‏(‏تدع الحليم‏)‏ باللام ‏(‏منهم حيران‏)‏ أي تترك تلك الفتنة العاقل متحيراً أي لا يقدر على دفع تلك الفتنة ولا كف شرها ‏(‏فبي يغترون أم عليّ يجترئون‏)‏ الهمزة للإستفهام الإنكاري والإغترار هنا عدم الخوف من اللّه تعالى وترك التوبة، والإجتراء الإنبساط والتخشع ذكره القاضي وقال الطيبي‏:‏ أم منقطعة، أنكر أولاً اغترارهم باللّه وإمهاله إياهم حتى اغتروا ثم أضرب عن ذلك وأنكر عليهم ما هو أعظم منه وهو اجتراؤهم عليه وهذا تهديد أكيد ووعيد شديد على النفاق العملي وكل الأمراض القلبية من غل وحقد وحسد وغيرها وفيه تحذير من الإغترار به تعالى ومن سوء عاقبة الجرأة عليه‏.‏

- ‏(‏ت‏)‏ في الزهد ‏(‏عن ابن عمر‏)‏ بن الخطاب وقال حسن غريب‏.‏

1754 - ‏(‏إن اللّه تعالى قال أنا خلقت الخير والشر فطوبى لمن قدرت على يده‏)‏ وفي رواية يديه ‏(‏الخير وويل لمن قدرت يده الشر‏)‏ وذلك لأنه تعالى جعل هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والرشاد وشرها أوعاها للبغي والفساد وسلط عليها الهوى وامتحنها بمخالفته لتنال بمخالفته جنة المأوى ثم أوجب على العبد في هذه المدة القصيرة التي هي بالإضافة إلى الآخرة كساعة من نهار أو كبلل ينال الأصبع حين يداخلها في بحر من البحار عصيان النفس الأمارة ومنعها من الركون إلى الدنيا ولذاتها لتنال حظها من كرامته فأمرها بالصيام عن محارمه ليكون فطرها عنده يوم القيامة‏.‏

- ‏(‏طب عن ابن عباس‏)‏ قال الهيثمي‏:‏ فيه ابن مالك بن يحيى البكري وهو ضعيف وقال الحافظ العراقي رواه ابن شاهين أيضاً في شرح السنة من حديث أبي أمامة وسنده ضعيف‏.‏

1755 - ‏(‏إن اللّه تعالى قبض‏)‏ حين شاء ‏(‏أرواحكم‏)‏ عن أبدانكم أيها الذين ناموا في الوادي عن صلاة الصبح وذلك بأن قطع تعلقها عنها وتصرفها فيها ظاهراً لا باطناً فالقبض مجاز عن سلب الحس والحركة الإرادية لأن النائم كمقبوض الروح ‏[‏ص 243‏]‏ في سلبها عنه فهو من قبيل ‏{‏اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها‏}‏ ولا يلزم من قبض الروح الموت فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهراً وباطناً والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط ‏(‏حين شاء وردها عليكم‏)‏ عند اليقظة ‏(‏حين شاء‏)‏ وحين شاء في الموضعين ليس لوقت واحد فإن نوم القوم لا يتفق غالباً في وقت واحد بل يتتابعون فحين الأولى خبر عن أحيان متعددة والمراد بذلك أنه لا لوم عليكم في نومكم حتى خرج وقت الصلاة إذ ليس في النوم تفريط ولا ينافيه أن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لما مر بعلي وفاطمة رضي اللّه تعالى عنهما وهما نائمان حتى طلعت الشمس أنكر عليهما فقال عليّ رضي اللّه عنه إن نواصينا بيد اللّه إن شاء أنامها وإن شاء أقامها فولى المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وضرب بيده على فخده قائلاً ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ لأن قصده بذلك حثهما على عدم التفريط بالاسترسال في النوم وهذا قاله حين نام هو وصحبه عن الصبح في الوادي حتى طلعت الشمس فسلاهم به وقال اخرجوا بنا من هذا الوادي فإن فيه شيطاناً فلما خرجوا قال ‏(‏يا بلال قم فأذن الناس بالصلاة‏)‏ كذا هو مشدد الذال أي أذن وبالموحدة فيهما في رواية البخاري وفي رواية له فآذن بالمد وحذف الموحدة من بالناس وأذن معناه أعلم والمراد به الإعلام المحض بحضور وقتها لا خصوص الآذان المشروع فإن مشروعيته كانت بعد، ذكره عياض، فلما اذن قام المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى والأنبياء وإن كانوا لا تنام قلوبهم لكن صرف اللّه قلبه للتشريع وأما الجواب بأنه كان له حالات فتارة ينام قلبه وتارة لا‏:‏ فضعفه النووي‏.‏ والجواب الذي صححه أن رؤيا الشمس من وظائف البصر ضعفه جمع بأن النفوس القدسية تدرك الأشياء بلا واسطة آلة، ألا ترى إلى خبر أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري قال الطيبي رحمه اللّه تعالى‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف أسند هذه الغفلة ابتداء إلى اللّه ثم أسنده إلى الشيطان ثانياً‏؟‏ قلت‏:‏ هو من المسألة المشهورة في خلق أفعال العباد وكسبها، وتقريرها أن اللّه أراد خلق الإنسان والنوم فيهم فمكن الشيطان من اكتساب ما هو جالب للغفلة والنوم من الهدوء وغيره‏.‏ قال في المطامح‏:‏ والكلام في الروح من وراء حجاب إلا في حق من كشف له عن عالم الملكوت والصحيح أن العلم بحقيقتها غير متعذر لكنه أغمض من كل المعلومات وأعسر من جميع المطلوبات جعله اللّه آية عظيمة من الآيات ودلالة من الدلالات يجب القطع به وأنه مخلوق وفيه الأذان للفائتة وبه قال أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه وأحمد والشافعي رضي اللّه تعالى عنهما في القديم، وفي الجديد لا، وهو قول مالك رضي اللّه تعالى عنه واختار النووي رضي اللّه تعالى عنه الأول لهذا الحديث وندب الأذان قائماً لقوله قم، ذكره عياض، ورده النووي رضي اللّه تعالى عنه بأن المراد بقوله قم اذهب إلى محل بارز فناد فيه للصلاة ليسمعك الناس ولا تعرض فيه للقيام حال الأذان‏.‏

- ‏(‏حم خ د ن عن أبي قتادة‏)‏ الأنصاري وهذا الحديث كثير الفوائد فمن أرادها فليراجع شروح الصحيح‏.‏

1756 - ‏(‏إن اللّه قد حرم النار‏)‏ أي نار الخلود لما ثبت أن طائفة من الموحدين يعذبون ثم يخرجون بدليل أخبار الشفاعة ‏(‏من قال لا إله إلا اللّه يبتغي بذلك وجه اللّه‏)‏ أي يقولها خالصاً من قلبه يطلب بها النظر إلى وجه اللّه تعالى وظاهر الخبر الاكتفاء بقولها مرة واحدة في أي وقت كان من العمر لكن بشرط الاستمرار على اعتقاد مدلولها إلى الموت المشار إليه بخبر من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة وأجرى بعضهم الحديث على ظاهره من إطلاق التحريم على النار وقال الكلام فيمن قالها بالإخلاص والصدق وهم فريقان أعلى وأدنى فالأدنى من يقف عند صنعه وأمره كالعبيد أما صنعه فهو حكمه عليه من عز وذل وصحة وسقم وفقر وغنى بأن يحفظ جوارحه السبع عن كل حكم به عليه وأما أمره فأداء الواجبات وتجنب المحرمات والإعلاء ان يكون في هذين حافظاً لقلبه قد راض نفسه وماتت شهواته ‏[‏ص 244‏]‏ ورضي بأحكام اللّه وقنع بما أعطاه اللّه وفطم نفسه عن اللذات وانقاد لأمره ونهيه إعظاماً لجلاله فخمدت نار شهوة النفس وخرج القلب من أسرها وقهرها فاستمسك بالعروة الوثقى فقوي واتصل بربه اتصالاً لا يجد العدو إليه سبيلاً لإلقاء شرك أو شك لما لزم قلبه من ذلك النور فإذا انتهى إلى الصراط صار ذلك النور وقاية من تحت قدمه ومن فوقه ومن حوله وأمامه فإذا مر بالنار قالت له يا مؤمن جز فقد أطفأ نورك لهبي فهو محرم عليها وهي محرمة عليه، أما من قال لا إله إلا اللّه ونفسه ذات هلع وشره وشهوة غالبة فائرة بدخان لذاتها كدخان الحريق مضيعة لحقوق اللّه مشحونة بالكذب والغش والخيانة كثيرة الهواجس والاضطرار فليست النار محرمة عليه بل يدخلها للتطهير إلا أن يتداركه عفو إلهي وغفر رباني‏.‏

- ‏(‏ق عن عتبان‏)‏ بكسر العين المهملة وسكون المثناة فوق وبموحدة تحتية ‏(‏ابن مالك‏)‏ الخزرجي السالمي بدري روى عنه أنس وغيره مات زمن معاوية قال‏:‏ قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي فقال‏:‏ أين مالك بن الدخشم فقال رجل‏:‏ ذاك منافق لا يحب اللّه ورسوله فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا اللّه يريد بذلك وجه اللّه‏:‏ وإن اللّه قد حرم‏.‏ إلى آخره‏.‏

1757 - ‏(‏إن اللّه قد أمدكم‏)‏ بالتشديد أي زادكم كما جاء مصرحاً به في رواية، من مد الجيش وأمده إذا زاده، وألحق به ما يكثره‏.‏ قال القاضي‏:‏ والإمداد اتباع الثاني للأول تقوية وتأكيداً له من المدد وروي زادكم ‏(‏بصلاة هي خير لكم من حمر‏)‏ بسكون الميم ‏(‏النعم‏)‏ بالتحريك الإبل وهي أعز أموال العرب وأنفسها فجعلت كناية عن خير الدنيا كأنه قيل هذه الصلاة خير مما تحبون من عرض الدنيا وزينتها لأنها ذخيرة للآخرة ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏ ‏(‏الوتر‏)‏ بالجر بدل من صلاة والرفع خبر مبتدأ محذوف قال القاضي‏:‏ ولا دلالة فيه لوجوب الوتر إذ الإمداد والزيادة يحتمل كونه على سبيل الوجوب وكونه على سبيل الندب وقال غيره‏:‏ ليس فيه دلالة على وجوبه إذ لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزيد ففي حديث البيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً إن اللّه زادكم صلاة على صلاتكم هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الركعتان قبل الفجر وقال الطيبي‏:‏ قوله إن اللّه أمدكم وارد على سبيل الامتنان على أمته مراداً به مزيد فضل على فضل كأنه قيل إن اللّه فرض عليكم الخمس ليؤجركم بها ويثيبكم عليها ولم يكتف بذلك فشرع التهجد والوتر ليزيدكم إحساناً على إحسان وثواباً على ثواب وإليه لمح بقوله ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏ ولفظ لك يدل على اختصاص الوجوب به فدل مفهومه على أنه غير واجب على الغير ‏(‏جعلها اللّه لكم‏)‏ أي جعل وقتها ‏(‏فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر‏)‏ تمسك به من ذهب إلى أن الوتر لا يقضى وبه قال مالك وأحمد وسفيان وعطاء وغيرهم‏.‏

- ‏(‏حم د ت ه قط ك‏)‏ كلهم ‏(‏عن خارجة بن حذافة‏)‏ بن غانم القرشي العدوي الذي كان يعد بألف فارس قال‏:‏ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكره وهو الذي قتله عمرو بن بكير الخارجي يظنه عمرو ليلة قتل علي ثم قال الحاكم صحيح تركاه لتفرد التابعي عن الصحابي وقال ابن حجر‏:‏ ضعفه البخاري وقال ابن حبان‏:‏ منقطع ومتن باطل وقال الفرياني في اختصار الدارقطني فيه عبد اللّه بن راشد عن أبي قرة لم يسمع منه وليس ممن يحتج به ولا يعرف لابن أبي قرة سماع من خارجة وقال ابن عدي‏:‏ لم يسمع من أبيه وليس له إلا هذا الحديث وفي الميزان حديثه عن خارجة في الوتر لم يصح وقال ابن حجر ورواه أحمد عن معاذ وفيه ضعف وانقطاع والطبراني عن عمرو بن العاص وفيه ضعف والحاكم والطحاوي عن أبي نضرة وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكن توبع الدارقطني عن ابن عباس وفيه النضر الخراز متروك وابن حبان عن ابن عمر وادّعى أنه موضوع وقال البزار أحاديث هذا الباب كلها معلولة انتهى‏.‏

‏[‏ص 245‏]‏ 1758 - ‏(‏إن اللّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه‏)‏ أي حظه ونصيبه الذي فرض له المذكور في آيات المواريث الناسخة للوصية للوالدين والأقربين ‏(‏فلا وصية لوارث‏)‏ ولو بدون الثلث إن كانت ممن لا وارث له غير الموصى له وإلا فموقوفة على إجازة بقية الورثة لقوله في الخبر الآخر إلا أن تجيز الورثة كذا قرره بعضهم وقال ابن حجر‏:‏ المراد بعدم صحة الوصية للوارث عدم اللزوم لقوله لأن الأكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة وقد كانت الوصية قبل نزول آية المواريث واجبة للأقربين فلما نزلت بطلت في الوصايا‏.‏

- ‏(‏عن أنس‏)‏ قال إني لتحت ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسيل عليّ لعابها فسمعته يقول فذكره فظاهر صنيعه حيث اقتصر علي عزوه لابن ماجة أنه تفرد به من بين الستة والأمر بخلافه فقد عزاه ابن حجر وغيره لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة ونحوه باللفظ المذكور بعينه قال ابن حجر‏:‏ وهو حسن الإسناد‏.‏ اهـ‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ سنده قوي وقال في موضع آخر‏:‏ ورد من طرق لا يخلو إسناد منها من مقال لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلاً بل جنح الشافعي رضي اللّه تعالى عنه في الأم إلى أن هذا المتن متواتر إلى هنا كلامه وقال في تخريج المختصر رجاله رجال الصحيح إلا سعيد بن أبي سعيد فمختلف فيه فقيل هو المقبري فلو ثبت هذا كان الحديث على شرط الصحيح لكن الأكثر على أنه شيخ مجهول وذهب الذهبي قبله في التنقيح إلى صحته حيث قال راداً على ابن الجوزي بل حديث صحيح‏.‏

1759 - ‏(‏إن اللّه تعالى قد أوقع‏)‏ أي صير ‏(‏أجره‏)‏ أي أجر عبد اللّه بن ثابت الذي تجهز للغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات قبل خروجه ‏(‏على قدر نيته‏)‏ أي فيكتب له أجر الشهادة وإن كان مات على فراشه وهذا يحتمل كونه خصوصية لذلك الصحابي ويحتمل العموم‏.‏

- ‏(‏مالك‏)‏ في الموطأ ‏(‏حم د ن ه حب ك‏)‏ كلهم ‏(‏عن جابر بن عتيك‏)‏ وفي نسخة عبيد - فليحرر - ابن قيس الأنصاري من بني غنم بن سلمة صحابي جليل اختلف في شهوده بدراً وشهد ما بعدها‏.‏

1760 - ‏(‏إن اللّه تعالى قد أجار‏)‏ في رواية بإسقاط قد ‏(‏أمتي‏)‏ أي حفظ علماءها عن ‏(‏أن تجتمع على ضلالة‏)‏ أي محرم، ومن ثم كان إجماعهم حجة قاطعة فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى اللّه ورسوله إذ الواحد منهم غير معصوم بل كل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ونكر ضلالة لتعم وأفردها لأن الإفراد أبلغ‏.‏

- ‏(‏ابن أبي عاصم‏)‏ وكذا اللالكائي في السنة ‏(‏عن أنس‏)‏ بن مالك قال ابن حجر‏:‏ غريب ضعيف لكن له شاهد عند الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ لا يجمع اللّه هذه الأمة على ضلالة ويد اللّه مع الجماعة ورجاله رجال الصحيح إلا إبراهيم بن ميمون‏.‏

1761 - ‏(‏إن اللّه كتب‏)‏ أي أوجب أو طلب والأول هو موضوع كتب عند أكثر أهل العرف لكن الثاني أولى لشموله للمندوب ومكملاته ‏(‏الإحسان‏)‏ مصدر أحسن وهو هنا ما حسنه الشرع لا العقل خلافاً للمعتزلة والمراد طلب تحسين الأعمال المشروعة باتباعها بمكملاتها المعتبرة شرعاً ‏(‏على‏)‏ أي في، كما في ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ أو إلى ‏(‏كل شيء‏)‏ غير الباري تقدس غني بذاته عن إحسان كل ما سواه فشمل الحيوان آدمياً أم غيره والنبات لاحتياجه للنمو والملائكة بأن تحسن عشرتهم فلا يفعل ما يكرهه الحفظة ولا يأكل ماله ريح كريه والجن بنحو نيتهم بسلام الصلاة وغير ذلك والإحسان لشياطينهم بالدعاء لهم ككفار الإنس وبالإسلام وفي إفهام كتب إشعار بأنه لا يتقاصر عنه من كتب عليه إلا انشرم دينه كما ينشرم خرز القربة المكتوب فيها، ذكره الحرالي ‏(‏فإذا قتلتم‏)‏ قوداً أو حداً غير قاطع طريق وزان محصن لإفادة نص آخر التشديد فيهما وغيره نحو حشرات وسباع فلا حظ لهما في الإحسان على ما قيل لكنه عليل إذ وجوب قتلها لا ينافي إحسان كيفيته، وفرع هذا وما بعده على ما قبله مع أن صور الإحسان لا تحصر لكونها الغاية في إيذاء الحيوان ‏[‏ص 246‏]‏ فإذا طلب الإحسان إليهما فغيرهما أولى ‏(‏فأحسنوا القتلة‏)‏ بكسر القاف هيئة القتل بأن يختاروا أسهل الطرق وأخفها إيلاماً وأسرعها زهوقاً لكن تراعى المثلية في القاتل في الهيئة والآلة إن أمكن وإلا كلواط وسحر فالسيف ‏(‏وإذا ذبحتم‏)‏ بهيمة تحل ‏(‏فأحسنوا الذبحة‏)‏ بالكسر بالرفق بها فلا يصرعها بعنف ولا يجرها لتذبح بعنف وبإحداد الآلة وتوجيهها للقبلة والتسمية والإجهاز ونية التقرب بذبحها وإراحتها وتركها إلى أن تبرد وشكر اللّه حيث سخرها لنا ولم يسلطها علينا ولا يذبحها بحضرة أخرى سيما بنتها أو أمها ‏(‏وليحد أحدكم‏)‏ أي كل ذابح ‏(‏شفرته‏)‏ بالفتح وجوباً في الكالة وندباً في غيرها وهي السكين وشفرتها حدها فسميت به تسمية للشيء باسم جزئه وينبغي مواراتها منها حال حدها للأمر به في خبر ‏(‏وليرح‏)‏ بضم أوله من أراح إذا حصلت له راحة ‏(‏ذبيحته‏)‏ بسقيها عند الذبح ومر السكين عليها بقوة ليسرع موتها فترتاح وبالإمهال بسلخها حتى تبرد، وعطف ذا على ما قبله لبيان فائدته إذ الذبح بآلة كالة يعذبها فراحتها ذبحها بآلة ماضية والذبيحة فعيلة بمعنى مفعولة وتاؤها للنقل من الوصفية إلى الإسمية قالوا وهذا الحديث من قواعد الدين‏.‏

- ‏(‏حم م عد عن شداد بن أوس‏)‏ الأنصاري الخزرجي ابن أخي حسان ممن أوتي العلم والحكمة‏.‏

1762 - ‏(‏إن اللّه تعالى كتب‏)‏ أي قضى وقدر يقال هذا كتاب اللّه أي قدره ومنه ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏، ‏{‏كتب عليكم القصاص‏}‏‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ سألني بعض المغاربة ونحن بالطواف عن القدر فقلت هو في السماء مكتوب في الأرض مكسوب ‏(‏على ابن آدم حظه من الزنا‏)‏ أي خلق له الحواس التي بها يجد لذة الزنا وأعطاه القوى التي بها يقدر عليه وركز في جبلته حب الشهوات فمن للبيان وهو مع مجروره حال من حظه، ذكره القاضي ‏(‏أدرك ذلك لا محالة‏)‏ بفتح الميم أي أصاب ذلك ووصل إليه البتة، ولا لنفي الجنس قال الجوهري‏:‏ حال كونه تغير وحال عن العهد انقلب وحال الشيء بيننا حجز والمحالة الحيلة يقال المرء يعجز لا محالة وقولهم لا محالة أي لا بد قال البيضاوي‏:‏ وهذا استئناف جواب عمن قال هل يخلص ابن آدم عنه قال ابن رسلان كلما سبق في العلم لا بد أن يدركه لا يستطيع دفعه لكن يلام على صدوره منه لتمكنه من التمسك بالطاعة وبه تندفع شبه القدرية والجبرية وقال الطيبي‏:‏ الجملة الثانية مترتبة على الأولى بلا حرف الترتيب تعويضاً لاستفادته إلى ذهن السامع والتقدير كتب اللّه ذلك وما كتبه لا بد أن يقع ‏(‏فزنا العين النظر‏)‏ إلى ما لا يحل من نحو أجنبية وأمرد ‏(‏وزنا اللسان المنطق‏)‏ وفي رواية النطق بدون ميم أي بما لا يجوز وإطلاق الزنا على ما بالعين واللسان مجاز لأن كل ذلك من مقدماته ‏(‏والنفس تمنى‏)‏ أي تتمنى فحذف إحدى التاءين أي وزنا النفس تمنيها ‏(‏وتشتهي‏)‏ أي اشتهاؤها إياه ‏(‏والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏)‏ أي إن فعل بالفرج ما هو المقصود من ذلك صار الفرج مصدقاً لتلك الأعضاء وإن ترك ما هو المقصود من ذلك فقد صار الفرج مكذباً ذكره القاضي وقال الطيبي‏:‏ سمى هذه الأشياء باسم الزنا لأنها مقدمات له مؤذنة بوقوعه ونسب التصديق والتكذيب إلى الفرج لأنه منشؤه ومكانه أي يصدق بالإتيان لما هو المراد منه ويكذبه بالكف عنه والترك قال الزمخشري في قوله كذب عليك الحج كذب كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم وهو في معنى الأمر يريد أن كذب هنا تمثيل لإرادة تلك ما سولت لك نفسك من التواني في الحج وكذا ما نحن فيه من الاستعارة التمثيلية شبه صورة حالة الإنسان من إرساله الطرف الذي هو رائد القلب إلى النظر إلى المحارم وإصغائه الأذن إلى السماع ثم انبعاث القلب إلى الإشتهاء والتمني ثم استدعائه منه فصار ما يشتهى وتمنى باستعمال الرجلين في المشي واليدين في البطش والفرج في تحقيق مشتهاه فإذا مضى الإنسان على ما استدعاه القلب حقق متمناه وإذا امتنع عن ذلك خيبة فيه ثم استعمل في حال المشبه ما كان مستعملاً في جانب المشبه به من التصديق والتكذيب ليكون ‏[‏ص 247‏]‏ قرينة للتمثيل وقد نظر المحاسبي رضي اللّه عنه إلى هذا حيث قال‏:‏

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً * لقلبك يوماً تعنك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر * عليه ولا عن بعضه أنت صابر

قال الطيبي‏:‏ والإسناد في قوله والفرج يصدقه أو يكذبه مجازي لأن الحقيقي هو أن يسند إلى الإنسان فأسنده إلى الفرج لأنه مصدر الفعل والسبب الأقوى وهذا ليس على عمومه لعصمة الخواص وقد يحتمل بقائه على عمومه بتكلف، وبدأ بزنا العين لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفرج زنبه بزنا اللسان بالكلام على زنا الفم بالتقبيل وجعل الفرج مصدقاً لذلك إن حقق الفعل ومكذباً له إن لم يحققه فكان الفرج هو الموقع وفيه أن العبد لا يخلق فعل لنفسه لأنه قد يريد الزنا فلا يطاوعه الذكر ولو كان خالقاً لفعله لم يعجز عما يريده مع استحكام الشهوة‏.‏

- ‏(‏ق د ن عن أبي هريرة‏)‏ قال ابن حجر ورواه أحمد والطبراني أيضاً ‏.‏

1763 - ‏(‏إن اللّه تبارك‏)‏ تعاظم ‏(‏وتعالى‏)‏ تنزه عما يليق بعلا كماله ‏(‏كتب الحسنات والسيئات‏)‏ أي قدرهما في علمه على وفق الواقع أو أمر الحفظة بكتابتهما ‏(‏ثم بين‏)‏ اللّه تعالى ‏(‏ذلك‏)‏ للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن استفساره في كل وقت كيف يكتبونه ‏(‏فمن هم بحسنة‏)‏ أي عقد عزمه عليها ‏(‏فلم يعملها‏)‏ بفتح الميم ‏(‏كتبها اللّه تعالى‏)‏ للذي هم بها أي قدرها أو أمر الحفظة بكتابتها ‏(‏عنده حسنة كاملة‏)‏ لا نقص فيها وإن نشأت عن مجرد الهم، والعندية للتشريف ومزيد الاعتناء سواء كان الترك لمانع أم لا، قيل‏:‏ ما لم يقصد الإعراض عنها جملة وإلا لم تكتب، واطلاع الملك على فعل القلب بإطلاع اللّه تعالى أو بأن يخلق له علماً يدرك به أو بأن يجد للّهم بها ريحاً طيبة ‏(‏فإن هم بها فعملها‏)‏ بكسر الميم أي الحسنة ‏(‏كتبها اللّه‏)‏ أي قدر أو أمر ‏(‏عنده‏)‏ تشريفاً لصاحبها ‏(‏عشر حسنات‏)‏ لأنه أخرجها من الهم إلى ديوان العمل و‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ وهذا أقل ما وعد به من الأضعاف ‏(‏إلى سبع مئة ضعف‏)‏ بكسر الضاد أي مثل وقيل مثلين ‏(‏إلى أضعاف كثيرة‏)‏ بحسب الزيادة في الإخلاص وصدق العزم وحضور القلب وتعدي النفع واللّه يضاعف لمن يشاء قال في الكشاف‏:‏ مضاعفة الحسنات فضل ومكافأة السيئات عدل ‏(‏وإن هم بسيئة فلم يعملها‏)‏ بجوارحه ولا بقلبه ‏(‏كتبها اللّه عنده‏)‏ عندية تشريف ‏(‏حسنة كاملة‏)‏ ذكره لئلا يظن أن كونها مجرد هم ينقص ثوابها وفي خبر مسلم الكف عن الشر صدقة ‏(‏فإن هم بها فعملها‏)‏ بكسر الميم ‏(‏كتبها اللّه تعالى‏)‏ عليه ‏(‏سيئة واحدة‏)‏ لم يعتبر مجرد الهم في جانب السيئة واعتبره في جانب الحسنة تفضلاً منه سبحانه، واستثنى البعض الحرم المكي فتضاعف فيه، وفيه ‏(‏ولا يهلك على اللّه إلا هالك‏)‏ أي من أصر على السيئة وأعرض عن الحسنات ولم ينفع فيه الآيات والنذر فهو غير معذور فهو هالك أو من حتم هلاكه وسدت عليه سبل الهدى أو من غلبت آحاده وهو السيئات عشراته وهي الحسنات المضاعفة إلى أضعاف كثيرة، وأعظم بمضمون هذا الحديث من منة إذ لولاه لما دخل أحد الجنة لغلبة السيئات على الحسنات‏.‏

- ‏(‏ق عن ابن عباس‏)‏ ظاهره أن كلاً من الشيخين روى الكل ولا كذلك بل الجملة الأخيرة رواها مسلم فقط دون البخاري كما نبه عليه ابن حجر

1764 - ‏(‏إن اللّه كتب كتاباً‏)‏ أي أجرى ‏[‏ص 248‏]‏ القلم على اللوح وأثبت فيه مقادير الخلائق على وفق ما تعلقت به إرادته أزلاً إثبات الكاتب على ما في ذهنه بقلمه على اللوح أو قدر وعين مقادير تعييناً بتاً يستحيل خلافه ‏(‏قبل أن يخلق السماوات والأرض‏)‏ جمع السماوات دون الأرض وهن مثلهن لأن طبقاتها بالذات متفاوتة الآثار والحركات وقدمها لشرفها وعلو مكانها ‏(‏بألفي عام‏)‏ كنى به عن طول المدة وتمادي ما بين التقدير والخلق من المدد فلا ينافي عدم تحقيق الأعوام قبل السماء والأعوام مجرد الكثرة وعدم النهاية مجازاً أو العدد من غير حصر فلا ينافي الزيادة ثم الظاهر أن المراد إحداث اللفظ أو ما يدل عليه في علم ملك أو في اللوح أو في كتاب كما قيل ‏{‏في صحف مكرمة‏}‏ الآية ولا إشكال وإن أراد الأمر الأزلي فتوجيهه أن المراد بالقبلية مجرد التقدم ومن البين تقدم الأزلي على حدوث كل حادث وما قيل إن الأزلي لا يتصف بالقبلية فهو بالمعنى المذكور ممنوع فإنه لا يقتضي وقوع المقدم في الزمن كتقدم الزمن الماضي على المستقبل فالمعنى أنه تحقق دون خلق السماء وقد تخلل بينهما مقدار كثير فتأمله ليظهر به اندفاع ما لكثيرين هنا ‏(‏وهو عند‏)‏ وفي رواية وهو عنده فوق ‏(‏العرش‏)‏ أي علمه عند العرش والمكتوب عنده فوق عرشه تنبيهاً على تعظيم الأمر وقيل للّه ما في السماوات وعلى ما مر وجلالة قدر ذلك الكتاب فإن اللوح المحفوظ تحت العرش والكتاب المشتمل على الحكم فوق العرش قال القاضي‏:‏ ولعل السبب فيه أن ما تحت العرش عالم الأسباب والمسببات واللوح يشتمل على تفاصيل ذلك وقضية هذا العالم وهو عالم العدل المشار إليه بقوله بالعدل قامت السماوات والأرض إثابة المطيع وعقاب العاصي حسبما يقتضيه العمل من خير أو شر وذلك يستدعي غلبة الغضب على الرحمة لكثرة موجبه ومقتضيه كما قال تعالى ‏{‏ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم‏}‏ الآية‏.‏ وقبول إثابة التائب والعفو عن المشتغل بذنبه فيه كما قال ‏{‏وإن ربك لذو مغفرة للناس‏}‏ أمراً خارجاً عنه مترقياً منه إلى عالم العقل الذي هو فوق العرش، وفي أمثال هذا الحديث أسرار إفشاؤها بدعة انتهى وقيل كونه عند العرش عبارة عن كونه مستوراً عن جميع الخلق مرفوعاً عن حيز الإدراك ‏(‏وأنه أنزل منه‏)‏ أي من جملة الكتاب المذكور ‏(‏الآيتين‏)‏ اللتين ‏(‏ختم بهما سورة البقرة‏)‏ أي جعلها خاتمتهما وأولهما ‏{‏آمن الرسول‏}‏ إلى آخرها وقيل ‏{‏للّه ما في السماوات‏}‏ على ما مر ‏(‏ولا يقرآن في دار‏)‏ يعني مكان، داراً أو خلوة أو مسجد أو مدرسة أو غيرها ‏(‏ثلاث ليال‏)‏ في كل ليلة منها، وكذا في ثلاث أيام فيما يظهر‏:‏ إنما خص الليل لأنه محل سكون الآدميين وانشار الشياطين ‏(‏فيقر بها شيطان‏)‏ فضلاً عن أن يدخلها فعبر بنفي القرب ليفيد نفي الدخول بالأولى ومن التقرير المار عرف أنه لا تعارض بين قوله هنا ألفي عام وفي خبر ابن عمر وخمسين ألف سنة على أن اختلاف الزمنين في إثبات الأمر لا يقتضي التناقض لجواز أن لا يكون مظهر الكوائن في اللوح دفعة بل تدريجياً وفائدة التوقيت تعريفه إياناً فضل الآيتين إذ سبق الشيء بالذكر على غيره يدل على اختصاصه بفضيلته ذكره القاضي تلخيصاً من كلام التوربشتي قال الطيبي‏:‏ وخلاصة ما قرراه‏:‏ الكوائن كتبت في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام ومن جملتها كتابة القرآن ثم خلق اللّه خلقاً من الملائكة وغيرهم فأظهر كتابة القرآن عليهم قبل ان يخلق السماوات والأرض بألفي عام وخص من ذلك هاتين الآيتين وأنزلهما مختوماً بهما أولى الزهراوين، ونظير الكتابة بمعنى الإظهار على الملائكة قراءة طه ويس عليهم قبل خلق السماوات والأرض بألفي عام تنبيهاً على جلالتهما وشرفهما قال‏:‏ ويجوز أن لا يراد بالزمانين التجريد بل نفس السبق فالمبالغة فيه للشرف واللّه أعلم بحقيقة الحال قال‏:‏ والفاء في قوله فيقربها للتعقيب أي لا يوجد ولا يحصل قراءتهما فيتعقبهما قربان الشيطان فالنفي مسلط على المجموع‏.‏

- ‏(‏ت ن ك عن النعمان بن بشير‏)‏ وفيه أشعث بن عبد الرحمن قال في الكاشف أبو زرعة وغيره غير قوي وأورده في الضعفاء وقال قال النسائي ليس بقوي ورواه الطبراني قال الهيثمي رجاله ثقات‏.‏

‏[‏ص 249‏]‏ 1765 - ‏(‏إن اللّه تعالى كتب في أم الكتاب‏)‏ اللوح المحفوظ أو علمه الأزلي ‏(‏قبل أن يخلق السماوات والأرض‏:‏ إنني أنا الرحمن‏)‏ الرحيم أي الموصوف بكمال الإنعام بحلائل الالآء ودقائقها ‏(‏خلقت الرحم‏)‏ أي قدرتها ‏(‏وشققت لها اسماً من اسمي‏)‏ لأن حروف الرحم موجودة في اسم الرحمن فهما من أصل واحد وهو الرحمة أو يقال الرحم مشتقة من الرحمة المشتق منها اسم الرحمن ‏(‏فمن وصلها وصلته‏)‏ أي أحسنت إليه وأنعمت عليه ‏(‏ومن قطعها قطعته‏)‏ أي أعرضت عنه وأبعدته عن رحمتي ولم أزد له في عمره كما سيجيء في خبر إن صلة الرحم تعمر الديار وتزيد في الأعمار قال الحكيم‏:‏ خلق اللّه الرحم بيده وشق لها اسماً من اسمه ثم أرسل حواشي قميص الرحمة من العرش ليتعلق الخلق بها فمن وصل الرحم فقد تعلق بحاشية القميص ومن قطعها قصرت يده عن حواشي القميص فانقطع عن رحمة اللّه ولم يبق له إلا رحمة التوحيد‏.‏